بسم الله الرحمن الرحيم
ويعتقد البعض بأنّ الملكين المأمورين بكتابة أعمال الإنسان هما اللذان يتوليان قبض روح الإنسان إذا انتهى أجله، ولعل العبارة الواردة في الآية الشريفة: «وكّل بكم» أشارت إلى هذا المعنى.
ولما كان الصلحاء والاتقياء يتميزون بجميع خصائصهم عن الطلحاء والمتهتكين، فمن الممكن أن تختلف الملائكة التي تتولى قبض أرواحهم، ولقبض الروح الطاهرة لعظماء الناس كالنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)، فانّ شخص ملك عزرائيل (عليه السلام) هو الذي يتولى هذه المهمّة(1).
—–
2 ـ كيفية قبض الأرواح
تبدو قضية قبض الروح مبهمة وغامضة لدينا على غرار الابهام الذي يكتنف ولوج
--------------------------------------------------------------------------------
1. وردت إشارة لهذا المعنى في رواية عن علي (عليه السلام) (بحار الانوار 6/142، ح6).
[ 38 ]
الروح في البدن، وكل الذي نعرفه بهذا الخصوص هو قطع الرابطة القائمة بين الروح والجسد حين قبض الروح، ولكن كيف يحصل ذلك وبأية صيغة؟ فهذا ما يكتنفه الغموض والابهام.
ويبدو أنّ كل ما ورد في الروايات الإسلامية يكون من قبيل التلميحات والتشبيهات، وإلاّ فليس لدينا سجناء عالم المادة من سبيل إلى مثل هذه الأمور المتعلّقة بعالم ما وراء الطبيعة.
فهل ملك الموت كائن في موضع ـ كما ورد في بعض الروايات ـ والدنيا لديه كالدرهم في كف اليد يقلبه كيف يشاء بحيث يتوفى كل أحد إذا ما صدر أمر وفاته، فيقبض روحه، أم أنّ ملائكة الموت انتشروا في كل مكان من العالم ويتجهون لقبض الأرواح إذا حان أجلها؟
لقد ذكرت ثلاثة احتمالات في الخطبة بشأن الأطفال الذين تقبض أرواحهم وهم أجنة في بطون أمهاتهم:
الأول: ورود ملك الموت في أحشاء الاُم من بعض جوارحها.
والثاني: يدعو روح الجنين اليه وهو في الخارج.
الثالث: كونه مع الجنين في أحشاء الاُم منذ البداية، ولذا عدم ترجيح الامام(عليه السلام) أحد هذه الاحتمالات الثلاثة إشارة الى حقيقة أنَّ صعوبة إدراكنا لجزئيات هذه الأمور بفعل وجودنا في عالم المادة.
وقد ركز بعض شرّاح نهج البلاغة على الاحتمال الثاني من بين الاحتمالات الثلاثة المذكورة، ولعل دليلهم في ذلك ما روي عن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «قيل لملك الموت(عليه السلام): كيف تقبض الأرواح وبعضها في المغرب وبعضها في المشرق في ساعة واحدة؟
فقال: أدعوها فتجيبني، قال: ثم قال ملك الموت: إنّ الدنيا بين يدي كالقصعة بين يدي أحدكم يتناول منها ما شاء»(1).
—–
--------------------------------------------------------------------------------
1. من لا يحضره الفقيه 1/80، ح12.
[ 39 ]
الخطبة(1) 113
مِنْ خُطْبِة لَهُ(عليه السلام)
في ذمّ الدنيا
نظرة إلى الخطبة
تحدّث الإمام (عليه السلام) في هذه الخطبة عن عدّة مسائل مهمّة مرتبطة مع بعضها البعض الآخر.
فقد حذر (عليه السلام) في القسم الأول من الخطبة من الدنيا، ثم ذكر عيوبها ومصائبها، حيث شبّهها بالدار الآيلة للسقوط فلا ينبغي الاغترار بها، ثم واصل في القسم الثاني كلامه بهذا الخصوص موصياً بعدم نسيان الموت والزهد في الدنيا من خلال عدم التعلّق بها.
وأخيراً إختتم الخطبة بالإشارة إلى تشتت المسلمين واختلافهم وإسناد ذلك إلى التهافت على الدنيا، وإنّ صلاح المجتمع في الحذر منها.
—–
--------------------------------------------------------------------------------
1. سند الخطبة:
ذكر البعض هذه الخطبة كل من الزمخشري في أوائل كتاب «ربيع الأبرار» والآمدي في كتاب «غرر الحكم» باختلاف طفيف يفيد أنّه نقلها من مصدر آخر غير نهج البلاغة (مصادر نهج البلاغة 2/247).
[ 40 ]
[ 41 ]
القسم الأول
«وَأُحَذِّرُكُمُ الدُّنْيَا فَإِنَّهَا مَنْزِلُ قُلْعَة. وَلَيْسَتْ بِدَارِ نُجْعَة. قَدْ تَزَيَّنَتْ بِغُرُورِهَا، وَغَرَّتْ بِزِيْنَتِهَا. دَارٌ هَانَتْ عَلَى رَبِّهَا، فَخَلَطَ حَلاَلَهَا بِحَرَامِهَا، وَخَيْرَهَا بِشَرِّهَا، وَحَيَاتَهَا بِمَوْتِهَا، وَحُلْوَهَا بِمُرِّهَا. لَمْ يُصْفِهَا اللّهُ تَعَالَى لاَِوْلِيَائِهِ، وَلَمْ يَضِنَّ بِهَا عَلَى أَعْدَائِهِ. خَيْرُهَا زَهِيدٌ وَشَرُّهَا عَتِيدٌ. وَجَمْعُهَا يَنْفَدُ، وَمُلْكُهَا يُسْلَبُ، وَعَامِرُهَا يَخْرَبُ. فَمَا خَيْرُ دَار تُنْقَضُ نَقْضَ الْبِنَاءِ، وَعُمُر يَفْنَى فِيهَا فَنَاءَ الزَّادِ، وَمُدَّة تَنْقَطِعُ انْقِطَاعَ السَّيْرِ! اِجْعَلُوا مَا افْتَرَضَ اللّهُ عَلَيْكُمْ مِنْ طَلَبِكُمْ، وَاسْألُوهُ مِنْ أَدَاءِ حَقِّهِ مَا سَأَلَكُمْ. وَأَسْمِعُوا دَعْوَةَ الْمَوْتِ آذَانَكُمْ قَبْلَ أَنْ يُدْعَى بِكُمْ».
—–
الشرح والتفسير
التحذير من الدنيا
إتّجه الإمام (عليه السلام) في هذا القسم من الخطبة نحو ذمّ الدنيا وأصحابها المتكالبين عليها، ثم حقّرها وعدّد عيوبها بما يوقظ كل عاقل وينبهه إلى أنّ الدنيا لا يمكنها أن تكون سبيل للنجاة وأداة للسعادة.
فقد استهل (عليه السلام) الخطبة بتحذير مخاطبيه بما فيهم الناس آنذاك واليوم وسائر الأفراد في كل العصور من الدنيا قائلاً: «وَأُحَذِّرُكُمُ الدُّنْيَا فَإِنَّهَا مَنْزِلُ قُلْعَة. وَلَيْسَتْ بِدَارِ نُجْعَة».
«القلعة» بضم القاف وسكون اللام المشتقة من مادة «قلع» الموضع غير المستوطن الذي يجب أن يرحل عنه الإنسان في أي زمان.
و«النجعة» بضم النون عكس سابقتها فهى تعني الموضع الذي عثر فيه الإنسان على الخير